كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



استدل الحنفية لمذهبهم بأن الصيد اسم عام يتناول كل ما يصاد من المأكول ومن غير المأكول، وهو اسم عربي واضح الدلالة على معناه، وقد كانت العرب تصطاد، وتطلق اسم الصيد على كل ما تناولته أيديهم ورماحهم.
ولم تنحصر فائدة حل الاصطياد في الأكل، بل قد تكون الفوائد التي هي غير الأكل أجدى من الأكل، ومغرية بالصيد أكثر منه، كصيد الفيلة للانتفاع بسنها مثلا، فيبقى اسم الصيد عاما في الحلال والحرام، لا يخرج منه شيء إلا ما أخرجه الدليل.
وقد فهم الصحابة هذا فامتنعوا من فعله مطلقا، حتى أذن لهم صلّى اللّه عليه وسلّم في الخمس الفواسق، فهي خارجة من هذا العام بهذا الإذن. وقد قال الإمام علي رضي اللّه عنه:
صيد الملوك أرانب وثعالب ** وإذا ركبت فصيدي الأبطال

فسمى الثعلب، صيدا، وهو مما لا يؤكل، إذ هو من السباع ذات الناب.
وذكر الفخر الرازي حجة الشافعية فقال: حجة الشافعي القرآن والخبر. أما القرآن فهو أنّ الذي يحرم أكله ليس بصيد، فوجب أن لا يضمن. إنما قلنا: إنه ليس بصيد، لأن الصيد ما يحل أكله لقوله تعالى بعد هذه الآية: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُمًا} فهذا يقتضي حل صيد البحر بالكلية، وحل صيد البر خارج وقت الإحرام، فثبت أنّ الصيد ما يحل أكله، والسبع لا يحل أكله، فوجب أن لا يكون صيدا، وإذا ثبت أنه ليس بصيد، وجب أن لا يكون مضمونا، لأنّ الأصل عدم الضمان. تركنا العمل به في ضمان الصيد بحكم هذه الآية.
فبقي ما ليس بصيد على وفق الأصل.
هذه عبارة الفخر الرازي أوردناها بنصها. ونحن لا نظن أن الإمام الشافعي وهو من هو يسلك هذا الطريق في الحجاج، فإنه يقال: ما الذي تدل عليه آية أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ إنها إن دلت على شيء فليس الذي تدل عليه أن الصيد هو المأكول. إذ هي قد أحلت شيئين صيدا وطعاما، فهما شيئان عامّ وخاصّ، فالأول الصيد مطلقا، والثاني طعامه، فهي تبيح الصيد انتفاعا وطعاما.
انظر إلى مَتاعًا لَكُمْ أي نفعا، وهو أعمّ من أن يكون من طريق الأكل أو طريق الحلية مثلا، وأما قوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُمًا} فهو كقوله تعالى: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} فإن دلت هذه على حل صيد غير المأكول دلت الأخرى، فنحن نرى أنّ هذه الآية التي ساقها الفخر دليلا لا تنهض دليلا على الدعوى.
قال الفخر بعد ذلك: وأما الخبر فهو الحديث المشهور، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: «خمس فواسق لا جناح على المحرم أن يقتلهنّ في الحل والحرم: الغراب، والحدأة، والحية، والعقرب، والكلب العقور».
وفي رواية أخرى: «السبع العادي».
قال والاستدلال به من وجوه:
أحدها: أن قوله: «و السبع العادي» نص في المسألة.
ثانيها: أنه عليه الصلاة والسلام وصفها بكونها فواسق، ثم حكم بحلّ قتلها، والحكم المذكور عقيب الوصف المناسب مشعر بكون الحكم معلّلا بذلك الوصف.
وهذا يدل على أنّ كونها فواسق علة لحل قتلها، ولا معنى لكونها فواسق إلا كونها مؤذية، وصفة الإيذاء في السباع أقوى، فوجب جواز قتلها.
ثم أتى بوجه ثالث لا يخرج في المعنى عن الثاني وهو أن الشارع خصها بهذا الحكم لا ختصاصها بمزيد الإيذاء، وصفة الإيذاء في السباع أتم، فوجب القول بجواز قتلها، وإذا ثبت جواز قتلها وجب أن لا تكون مضمونة.
وما ندري إذا أراد الفخر أن يستدل للحنفية فماذا يقول: إنه لا يقول ولا يفعل أكثر من أن يقول: وحجة الحنفية، ثم يذكر هذا الدليل، فإنك قد عرفت أن الحنفية يقولون: إن الصيد اسم عام يتناول المأكول وغير المأكول لا يخرج عنه شيء إلا ما أخرج الدليل، وقد أخرج الدليل الخمس الفواسق، لأنها فواسق، لا لأنها ليست بصيد، أو لأنها غير مأكولة، فهذا دليل للحنفية لا عليهم. وأما ما ذكر من الرواية الأخرى التي صرح فيها باسم «السبع العادي» فالحنفية لهم أن يقولوا: بل هم قد قالوا فعلا: إن صح هذا الحديث فنحن نقول بموجبه، فقد جاء في الحديث وصف السبع بالعادي، والعادي معناه الضاري، وهم يقولون بقتل كل ما يكون منه عدوان دفعا لعدوانه، وإضافة هذا الوصف دليل على أنه من غير الفواسق، وفي ذلك دليل على أنه إنما يحل قتله في حال ضراوته وعدوانه. والحنفية يقولون: إن السبع لو قتل في هذه الحال لا جزاء فيه، فأنت ترى أنّ هذه الحجة التي ساقها الفخر الرازي للتدليل على مذهب الشافعية لا تصلح دليلا على الدعوى.
وإنما يصلح دليلا لهم أن يقوم الدليل على أنّ الصيد خاصّ بالمأكول، فإن ثبت هذا كانت الآية حجة لهم، وإلا فهي ظاهرة في العموم حتى يقوم الدليل على الخصوص، وقد قال الفخر الرازي في الرد على بيت الإمام علي الذي استدل به الحنفية: إنه غير وارد، لأن الثعلب مأكول، فهو صيد، ونحن نقول به، والرد من هذه الجهة مقبول له أنه ثبت أنه إنما سماه صيدا لأنه مأكول، وهذه هي محل النزاع.
وعلى أي حال فالآية ظاهرها العموم حتى يقوم الدليل على الخصوص.
وَأَنْتُمْ حُرُمٌ حرم جمع حرام، وقد قيل: إن المراد وأنتم محرمون بالحج، وقيل: بل المراد وقد دخلتم بالحرم، وقيل: هما مرادان بالآية، وعلى هذا المعنى الأخير فهذه الآية تدلّ على أنّ المحرم ممنوع من الصيد مطلقا داخل الحرم وخارجه، وعلى أنّ الحلال ممنوع من الصيد داخل الحرم.
وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ ظاهر الآية ترتيب الجزاء المخصوص على القتل العمد، وقد اختلف السلف في ذلك على ثلاثة أقوال: فالجمهور على أنّ الجزاء يترتب على قتل الصيد مطلقا، سواء تعمّد القاتل قتله أو أخطأ فيه، وسواء كان ذاكرا لإحرامه أو ناسيا.
وإنما خصّ العمد بالذكر لأجل أن يرتّب عليه الانتقام عند العود، لأنّ العمد هو الذي يترتب عليه ذلك، دون الخطأ.
بقي أن يقال: هذا حكم العمد قد عرف من الآية وأنّ فيه الجزاء، فمن أين الجزاء في الخطأ.
قيل: إن جزاء الخطأ معروف من الدليل الذي يقرّر التسوية في ضمان المتلفات. إذ إنّ من قتل صيد إنسان عمدا أو خطأ في غير الحرم، أو أتلف مالا مملوكا لإنسان عمدا أو خطأ فعليه جزاؤه، فهذا حكم عام في جميع المتلفات. بل قد عرف في باب جنايات الإحرام بوجه خاص أنه لا فرق بين معذور وغير معذور في وجوب الفدية، وما الخطأ إلا عذر من الأعذار، غاية ما يؤثر في العقوبة الأخروية فيسقطها.
وإذا ثبت أن جناية الإحرام يستوي فيها المعذور وغير المعذور علمنا أن القتل العمد والخطأ في وجوب الجزاء سواء، وليس ذلك إثباتا للكفّارة بالقياس، بل بما ثبت به أن ضمان المتلفات يستوي فيه العمد والخطأ.
وذهب ابن عباس فيما رواه قتادة عنه: أنه لا شيء في الخطأ، وهو قول طاوس وعطاء ومجاهد في إحدى الروايتين عنه.
والرواية الأخرى أنّه إن قتله عامدا ناسيا لإحرامه، أو قتله خطأ ذاكرا لإحرامه فهذا الذي يحكم عليه بالجزاء. أما من قتله عامدا ذاكرا لإحرامه فهذا لا ينفعه الجزاء.
فقد أخرج ابن جرير عن ابن أبي نجيح عن مجاهد: لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم، ومن قتله منكم متعمدا غير ناس لحرمه، ولا مريد غيره، فقد حل، وليس له رخصة، ومن قتله ناسيا إحرامه، أو أراد غيره، فذلك العمد المكفر.
وروى ابن أبي نجيح عنه أيضا في هذا المعنى قال: من قتله ناسيا لإحرامه متعمّدا لقتله، فذلك الذي يحكم عليه، فإن قتله ذاكرا لإحرامه متعمّدا قتله لا يحكم عليه، ولا حجّ له.
وفي رواية: هذا لا يحكم عليه. هذا أجلّ من أن يحكم عليه. وقال ابن زيد:
أما الذي يتعمّد فيه، وهو ناس لحرمه، أو جاهل أن قتله غير محرّم، فهؤلاء الذين يحكم عليهم. فأما من قتله متعمدا بعد نهي اللّه، وهو يعلم أنّه محرم، وأنه حرام، فذلك يوكل إلى نقمة اللّه.
فهذه أقوال ثلاثة في قتل الصيد، وقد علمت أن الجمهور على الأوّل وعلمت وجهه. فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ قرئ فَجَزاءٌ بالرفع والتنوين، والمعنى على هذه القراءة فالواجب جزاء مماثل للمقتول.
وقرئ فجزاء مثل برفع جزاء مضافا إلى مِثْلُ ما قَتَلَ وظاهر هذه القراءة أنّ الجزاء إنما هو جزاء مثل المقتول لا جزاء المقتول.
قالوا: إن ذلك خارج مخرج: مثلك جدير بالإكرام، والمعنى أنت جدير بالإكرام، ومن ذلك قوله تعالى: {أَوَ مَنْ كانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ} [الأنعام: 122] إذ المعنى كمن هو في الظلمات، ويجوز أن تكون الإضافة على معنى (من) والمعنى فجزاء من مثل ما قتل.
ومِنَ النَّعَمِ يحتمل أن يكون حالا من الجزاء، والمعنى فجزاء مماثل للمقتول حال كون الجزاء من النعم، وجوّز بعضهم أن يكون بيانا لما في قوله: ما قَتَلَ والمعنى عليه: فجزاء مماثل للمقتول حال كون المقتول من النعم، وأنت تعلم أن ذلك إنما يتم على رأي أبي عبيد والأصمعي اللذين يقولان: إن النعم كما يكون من الأهلي يكون من الوحشي، وهو خلاف المشهور، إذ إنّ المشهور أن النعم يطلق على الإبل وحدها، وعلى البقر والغنم مضمومة إلى الإبل، ويصح أن يكون حالا من الضمير في (قتل) وهو قريب من هذا المعنى.
وقد اختلف العلماء في المراد بالمثل، فقد روي عن ابن عباس أن المثل النظير، ففي الظبية شاة، وفي النعامة بعير، وكذا كل صيد قتل يجب فيه نظيره في المنظر، وهو مذهب محمد بن الحسن والشافعي ومالك والإمامية، وحجتهم أن اللّه أوجب مثل المقتول مقيّدا بكونه من النعم، فلابد أن يكون الجزاء مثلا من النعم، وذلك لا يكون إلا بأن يكون من الحيوانات التي تماثل المقتول، فلا تجب القيمة لأنّها ليست من النعم.
وقد أوجب الصحابة رضوان اللّه عليهم كعلي وعمر وعبد اللّه بن مسعود وغيرهم في النعامة بدنة، وفي حمار الوحش بقرة، إلى غير ذلك. وذهب أبو حنيفة وأبو يوسف إلى أن الواجب هو قيمة الصيد المقتول باعتبار كونه صيدا قبل الصيد، يقوّم في المكان الذي صيد فيه، أو في أقرب الأماكن إليه، وفي زمان الصيد، لأنّ القيمة تتفاوت باعتبار المكان والزمان، وخلاف محمد إنما هو فيما له مثل، أما ما لا مثل له فالواجب القيمة عنده كما هي عند أبي حنيفة وأبي يوسف.
وأما الشافعي فقد روي عنه أنه يعتبر المماثلة ولو في الصفات، فأوجب في الحمامة شاة، لأنّ الحمامة تشبه الشاة في عب الماء وفي الهدير.
احتج أبو حنيفة وأبو يوسف: بأن اللّه أوجب مثل المقتول مطلقا، والمطلق ينصرف إلى الفرد الكامل منه، وذلك يكون فيما هو مماثل في الصورة والمعنى، وذلك طنما هو من المشارك في النوع، وإيجاب ذلك متعذر، لأنّ نوع الصيد صيد، وهو محذور، فننتقل منه إلى ما يقاربه، وهو المثل في المعنى، فوجب المصير إليه، وذلك لأنّه قد عهد في الشرع عند إطلاق المثل أن يراد المشارك في النوع أو القيمة، فقد قال اللّه تعالى في ضمان العدوان: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ والمراد من المثل النظير بالنوع في المثليات، والقيمة في القيميات، فهو مشترك معنوي، والحيوانات قد اعتبرها الشارع من القيميات للاختلاف الباطني في أبناء النوع الواحد، فأولى أن يراد بالمثل القيمة فيما اختلف نوعه.
وقد أهدر الشارع في ضمان المتلفات المماثلة الحاصلة في الصورة الظاهرة في أبناء النوع الواحد، فعدم اعتبارها فيما اختلف نوعه أظهر، ولسنا نقول إننا نعتبر القيمة ونصرفها نقدا، بل نحن نعتبرها معيارا تعرف بها قيمة الصيد، ثم يشترى بها ما يساويها من النعم إن بلغت هديا، وإلا أطعم بها مساكين، أو صام بمقدارها. فالمدار في الجزاء على المثل الذي هو القيمة، ليمكن أن يلجأ الحكمان إليها في تعيين الواجب من النعم.